مبادرة الصادق المهدي.. المعاهدة الشاملة لدول حوض النيل


إن الوعي بقيمة مياه الأنهار يتركز عبر التاريخ في دول المصب وليس دول المنبع، وهذا يرجع إلى الطبيعة الطبوغرافية لمجاري الأنهار ففي الأعالي (المنابع) تتوفر المياه عادة بكثرة لذلك لا حاجة لضبطها وتنظيمها بينما تنشأ الحاجة للضبط والتنظيم أسفل الأنهار(المصبات).
وهذا هو الحال مع نهر النيل، فإن أوعى الناس وأكثرهم اعتمادا عليه واستفادة منه هم من في أسفل النهر (مصر تحديدا)، ومن ذلك اكتسبت مصر حقها الأول والأكبر في مياه النيل وجاءت الاتفاقيات الدولية تقنن هذه الحقيقية.

الاتفاقيات الدولية الحاكمة لمياه النيل
هناك عدة اتفاقيات حول مياه النيل أبرمت في وقت كانت فيه شعوب أعالي النيل مستعمرة منها:
·     اتفاقية عام 1929م بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية ممثلة للسودان، وأوغندا، كينيا، وتنزانيا والتي نصت على "ألا يقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد كهرباء ولا تتخذ على النيل وفروعه سواء في السودان أو في الدول الأخرى الواقعة تحت الإدارة البريطانية أعمال يكون من شأنها إنقاص المقدار الذي يصل إلى مصر أو تعديل مواقيت وصوله أو إنقاص منسوبه".
وحددت الاتفاقية نصيب مصر بحوالي 48 مليار متر مكعب ونصيب السودان بـ 4 مليار. وألزمت السودان بتحديد أوقات سحب مياه النيل.
·     بروتوكول 1891م بين بريطانيا ممثلة لمصر، وإيطاليا ممثلة لأثيوبيا، تتعهد بموجبه إيطاليا بعدم إقامة أية أعمال على نهر عطبرة لأغراض الري يكون من شأنها تعديل تدفق مياه الرافد لنهر النيل.
·   معاهدات عام 1902م بشأن الحدود بين المستعمرات البريطانية وأثيوبيا والتزام منليك بعدم القيام بأية أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط مما يؤدي إلي التأثير على كمية المياه المتدفقة في نهر النيل.
·    اتفاق بين بريطانيا وحكومة الكنغو عام 1906م القائمة على نهر سمليكي أو نهر إيسانجو الذي يصب في بحيرة ألبرت.
·   اتفاقية عام 1959م بين مصر والسودان التي خلصت إلى عدم أحقية دول المنابع في تغيير الحصص المقررة إلا باتفاق الدولتين (مصر والسودان) وأنه عندما يتفق على نصيب لدول حوض النيل الأخرى فإنه يخصم بالتساوي من نصيبي مصر والسودان.
ولا شك أن مجموع هذه الاتفاقيات لها الحجة القانونية استنادا إلى ما نصت عليه اتفاقية فينا التي أبرمت في عام 1978م بشأن التوارث الدولي للمعاهدات والتي تقول بأن اختلاف النظم السياسية وتعاقبها لا يؤثر سلبا على التزامها بالاتفاقيات القانونية القائمة.

المستجدات في حوض النيل
وقف الصادق المهدي خلال محاضرته بجامعة النيلين بتاريخ 16/2/2004م بعنوان " الآفاق المستقبلية لمياه النيل كمكون أساسي للتنمية الاقتصادية في السودان" على عدة حقائق جديدة بدأت تحكم العلاقات حول حوض النيل غير الاتفاقيات الدولية منها:
·      المجاعات التي حدثت في بعض دول حوض النيل، فبلد مثل أثيوبيا مع أن النيل ينبع من غرب أراضيها، إلا أنها تجوع وتعطش في مناطق أخرى منها بسبب نقص المياه.
·        الكثافة السكانية المتزايدة.
·        التطور التكنولوجي الذي جعل بلدان الحوض في وضع يتطلع لاستغلال الطاقة الكهرومائية.
لذلك برزت على الساحة الأقوال المضادة للوضع القانوني لمياه النيل:
·      قال المندوب الأثيوبي في المؤتمر السابع للنيل عام 2002م (وهي مجموعة من عشرة مؤتمرات تحت عنوان النيل عام 2002م) "إن الممارسة الحالية في حوض النيل غير متوازنة ولا يمكن أن تستمر، إن الاتفاقيات السائدة يجب أن تحل محلها اتفاقية جديدة تقوم على الاستغلال العادل لمياه النيل".
·    أعلنت الحكومة الكينية في مؤتمر صحفي عقده السيد موسس ويتانقولا مساعد وزير خارجيتها في 10/12/2003م إنها أصبحت في حل من اتفاقية مياه النيل لعام 1929م، وأن الاتفاقية التي وصفتها بغير الشرعية وغير العادلة قد اتفقت دول شرق أفريقيا الثلاث (كينيا وأوغندا وتنزانيا) على إلغائها، وعلى دولتي مصر والسودان إذا أرادتا الاستفادة من مياه بحيرة فكتوريا التفاوض من جديد مع دول شرق أفريقيا (صحيفة الاتحاد الاماراتية 11/12/2003). وتراجعت الحكومة الأوغندية عن دعم الإلغاء.
·      صرحت مارتا كاروا وزيرة الموارد المائية الكينية لصحيفة "الاتحاد" الإماراتية: "إن بلادنا بذلت جهودا متواصلة على مدار سنوات طويلة لتعديل اتفاقية مياه النيل حتى تخدم جميع حوض النيل ولكن الحكومة المصرية كانت دائما تقف أمام ذلك".

الحصة المصرية بين الاتفاق والنزاع
وفي المقابل فإن لمصر حقوقا مكتسبة في مياه النيل، وبسبب الكثافة السكانية واستصلاح الأراضي بمصر فإن الحاجة المصرية للمياه متزايدة، ومن هنا قابلت السلطات المصرية التصريحات السابقة بعنف وبلهجة تنطوي على التهديد بالحرب في حالة المساس بأي قطرة من مياه النيل.
 التصريحات الصحفية رغم حدة لهجتها لم تمنع الاتصالات الدبلوماسية وتكوين اللجان الفنية التي تحاول التوفيق بين الأمرين.
·        الأول: احترام الأمر الواقع والاتفاقيات السابقة:
نصت الاتفاقية في الفقرة الأولى من المادة الثالثة على: "ليس في هذه الاتفاقية ما يؤثر في حقوق أو التزامات دولة المجرى المائي الناشئة عن اتفاقات يكون معمولا بها بالنسبة لهذه الدولة في اليوم الذي تصبح فيه طرفا في هذه الاتفاقية". كما أن الاتفاقية تؤيد موقف دولتي الوادي المنتفعتين بالمياه بالمادة السابعة: الالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن، وتفيد أن أي انتفاع بالمجرى المائي يجب أن يكون بطريقة لا تسبب ضررا لدول المجرى الأخرى، وفي حالة وقوعه فعلى الدول التي سبب استخدامها الضرر التشاور مع الدولة المتضررة من أجل إزالة أو تخفيف الضرر والقيام عند الاقتضاء بمناقشة مسألة التعويض.
·        الثاني: السعي لمراجعة الاتفاقيات بما يتناسب ومبادئ الاتفاقية:
نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة على: "رغم ما نصت عليه الفقرة الأولى يجوز للأطراف في الاتفاقات القائمة أن تنظر عند اللزوم في تحقيق اتساق هذه الاتفاقات مع المبادئ الأساسية لهذه الاتفاقية".

معاهدة شاملة لمياه النيل
من خلال هذا الموقف المعقد المتأزم أقترح الصادق المهدي خلال محاضرته الآنفة مبادرة بضرورة استحداث آلية تتفاوض عبرها دول حوض النيل من أجل الاتفاق على معاهدة شاملة لمياه النيل.. معاهدة تقوم على واحد وعشرين بنداً هي:
1.      النيل وحدة مائية وتلتزم دول الحوض بالامتناع عن القيام بأية أعمال منفردة فيه تلحق ضررا بالدول الأخرى.
2.       السيادة على النيل مشتركة بين كل الدول المتشاطئة عليه.
3.     تتجنب دول الحوض الابتزاز، والتهديد، والتلويح باستخدام القوة وتحرص على حسم الخلافات بالوسائل السلمية.
4.       استغلال مياه النيل يخضع لاتفاق شامل وملزم تبرمه وتلتزم به دول الحوض.
5.        تلتزم دول حوض النيل بترشيد الطلب على المياه، وبالعمل لزيادة العرض من مياه النيل، وبإصلاح البيئة الطبيعية في حوض النيل، وبحماية النيل من التلوث، وتلتزم بالتعاون بينها لتحقيق هذه الأهداف.
6.      لأسباب تاريخية تتعلق بالضرورة، والكثافة السكانية، وغياب البديل المائي، سبقت مصر ثم السودان إلى استغلال مياه النيل فصارت لهما حقوق مكتسبة.
7.        لأسباب جغرافية (كثرة الأمطار)، وأسباب طبوغرافية(المرتفعات)، لم تنل دول أعالي النيل حصة من مياه النيل في الماضي. لكن الضرورة التنموية، والزيادات السكانية، والإمكانات التقنية، أتاحت لدول منابع النيل فرصا لاستخدام مياه النيل للري والإنتاج الكهرومائي فصارت تطالب بحقها فيها.
8.          تعترف كافة دول حوض النيل اعترافا متبادلا بالحقوق المكتسبة والحقوق المطلوبة.
9.         بناء على الكثافة السكانية، والحاجة للمياه، وقلة البدائل لمياه النيل، يتفق على تحصيص مياه النيل على النحو التالي:
أ‌. إعطاء مصر (دولة المصب) والسودان (دولة المجرى) معاً 80% تقسم بينهما وفق اتفاقية 1959م على أساس 3 :1في الحصة المشتركة وعلى أساس اقتسام النقص والزيادة بالتساوي.
ب‌. يكون لدول المنابع نصيب محدد من المياه النابعة في أراضيها20%.
10.         الأنصبة المتفق عليها تخص دفق المياه الحالي. والمياه المترتبة على زيادة دفق مياه النيل توزع على أساس الثلث للدولة المعنية، والثلث لمصر، والثلث للسودان. كذلك يوزع أي نقص في دفق المياه على أساس الثلث على مصر والسودان والدولة المعنية.
11.        يوضع برنامج محدد متفق عليه بين كافة دول حوض النيل للمشاريع المشتركة لزيادة دفق مياه النيل: قناة مشار- بحيرة فكتوريا - بحيرة تانا - قناة جنقلي وهكذا.
12.        تدرس آثار هذه المشروعات على السكان المقيمين في مناطقها وعلى البيئة لاحتواء أية أضرار ناتجة عن المشروعات وكفالة مصالح السكان وسلامة البيئة الطبيعية.
13.      يجوز لأية دولة من دول حوض النيل أن تزارع أية دولة أخرى من دول الحوض على أساس مزارعة شراكة بين المياه، والأرض، والمال.
14.        يجوز لأية دولة من دول حوض النيل أن تبيع نصيبها أو جزءاً منه في المياه لدولة أخرى من دول الحوض.
15.       تقيم دول حوض النيل هيئة مشتركة كإدارة موحدة لموارد مياه النيل.
16.     هيئة مياه النيل المشتركة تكون لها سلطة وزراية عليا، وسكرتارية، وأجهزة فنية لتبادل المعلومات، ولتوجيه الأبحاث العلمية، ولتحقيق التعاون الفني وإقامة آلية لمتابعة وتنفيذ التوصيات والمتابعة اللصيقة للأمور الفنية والمتخصصة المتعلقة بمياه النيل.
17.    إنشاء مؤسسات لاستغلال الموارد البديلة مثل المياه الجوفية وإعادة استعمال المياه العادمة (مياه الصرف) في كافة دول الحوض وتتولى هذا الأمر مؤسسات مشتركة قائمة بذاتها وتتحمل دول المصب نصيباً كبيرا من التمويل.
18.     تطوير النظام المؤسسي للتعاون بين دول حوض النيل بإنشاء نظام تمويلي يبين كيفية التمويل والتزامات الدول الأعضاء بما يقوي الاعتماد على الذات ويضمن المساعدات المشتركة لكل حسب حاجته وقدرته في تكامل مع المعونات الخارجية وموارد التعاون الدولي لدول الحوض.
19.      الاهتمام بالمشاركة الشعبية والجهد الطوعي غير الحكومي. وإشراك القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني وذلك بتوسيع قاعدة المشاركة بشأن قضايا تنمية الحوض والانتفاع الأمثل بالموارد المائية في تنمية المشاريع الاستثمارية والخدمية.
20.       إنشاء مركز تدريب ودراسات لحوض النيل.
21.       إنشاء بنك معلومات يعنى بكافة الإحصاءات والبيانات المتعلقة بمياه النيل.
هذه المبادئ تعلنها دول حوض النيل وتتخذها أساسا لمعاهدة شاملة وملزمة. هذه المعاهدة من شأنها أن تنقل حوض النيل من التوتر العدائي إلى التعاون الاستراتيجي الذي من شأنه أن يفتح الباب واسعا لتحقيق الآمال والطموحات الآتية:
·    إيجاد مناخ فكري وسياسي وفني يسمح بقيام تكتل اقتصادي إقليمي يضم دول حوض النيل كقوة إقليمية متعاونة وقادرة على حماية مصالح أعضائها في مناخ العولمة.
·     تحقيق تواصل إيجابي بين أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء، ويمهد لترابط عربي/أفريقي يعود بالفائدة على الشعوب العربية والإفريقية.
·      التعاون وحشد طاقات دول وشعوب الإقليم في اتجاه القضاء على الحروب الأهلية وتحقيق الاستقرار.
·      حماية حوض النيل من آثار التوتر والنزاع والصدام الذي أحاط بأحواض مجاورة في إفريقيا وفي آسيا.
·     ايجاد بيئة جاذبة للدول الغنية والمؤسسات الدولية المتخصصة لتساهم مساهمة قوية في دعم مشروعات تنمية موارد النيل المائية بالإمكانات المالية، والفنية، والبشرية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التشبيك والشبكات انطلاقة جديدة للمجتمع المدني

التجربة السنغافورية.. نظام مدرسي بلا امتحانات أو درجات!

رحلة البحث عن الحقيقة.. من جاري ميلر إلى عبدالأحد عمر